تهديدات الحوثي في البحر الأحمر- صراع القوى واضطراب الملاحة العالمية.

المؤلف: محمد القاضي10.23.2025
تهديدات الحوثي في البحر الأحمر- صراع القوى واضطراب الملاحة العالمية.

من غير الجليّ ما إذا كانت الإدارة الأمريكية تعاملت مع تهديدات الحوثيين باستهداف السفن الإسرائيلية أو المتجهة نحو موانئها بذات الاستخفاف الذي أظهره سفيرها السابق في اليمن، جيرالد فايرستاين، تجاه شعار الحوثيين المناهض لأمريكا. ففي مؤتمر صحفي عقده في صنعاء منتصف عام 2012، وصف فايرستاين الشعار بأنه "مضحك وسخيف"، وذلك قبل عامين من انقلاب الحوثيين على المسار السياسي واستيلائهم المسلح على العاصمة صنعاء. يبقى السؤال معلقًا: هل أخذت الإدارة الأمريكية التهديدات على محمل الجد؟

محاولة للهروب

منذ بدء الهجمات التي يزعم الحوثيون أنها دعمًا للمقاومة الفلسطينية في غزة، تتجه الأنظار نحو البحر الأحمر، ومدخله الجنوبي، وصولًا إلى بحر العرب. وعلى الرغم من وجود من يشككون في قدرة الحوثيين على الاستمرار في هذه الهجمات، خصوصًا مع طول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة، واستهزاء القوى اليمنية المعارضة لهم، إلا أن هجمات الجماعة ضد السفن الإسرائيلية، والسفن المتجهة إلى موانئها، بالإضافة إلى السفن الأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر وخليج عدن، قد اتخذت منحى تصاعديًا منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" وحتى اليوم. في المقابل، كثف التحالف الأمريكي البريطاني، الذي يحمل اسم "حارس الازدهار"، غاراته الجوية على مواقع الحوثيين في شمال اليمن، ووسع نطاق أهدافه بشكل ملحوظ.

وقد كشفت الاستخبارات الأمريكية مؤخرًا عن تأثر حوالي 65 دولة بهذه العمليات، وأن ما لا يقل عن 29 شركة شحن وطاقة كبرى قد غيرت مساراتها لتجنب المنطقة. وأفادت التقارير بتعرض أكثر من 12 سفينة تجارية للقصف بين نوفمبر/تشرين الثاني ومارس/آذار، بالإضافة إلى محاولات اختطاف وإن كانت محدودة. ووفقًا لموقع "أكسيوس" الأمريكي، فقد انخفض شحن الحاويات عبر البحر الأحمر بنسبة تقارب الـ 90%، مع ارتفاع كبير في أقساط التأمين.

ينبغي التوضيح أن صورة الحوثي التي يتداولها المسؤولون ووسائل الإعلام الأمريكية، وتلك التي أسرت الجماهير العربية والإسلامية بهجماته التضامنية مع غزة، تختلف جوهريًا عن الحوثي الذي عرفه اليمنيون منذ ظهوره الأول في شمال اليمن مطلع القرن الحالي. الكثير من اليمنيين يعتبرون تصعيده في البحر الأحمر وخليج عدن مجرد محاولة يائسة للهروب من أزماته الداخلية، ويرون أنه استفاد من قضية غزة أكثر مما أفاد أهلها ومقاومتها.

بالنظر إلى الأحداث التي شهدها البحر الأحمر، كممر حيوي للتجارة الدولية، خلال النصف قرن الأخير، يلاحظ المراقب قيام وزارة الدفاع المصرية بنشر وثائق تاريخية غير مسبوقة حول حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وذلك في خضم معركة "طوفان الأقصى". الوثائق تضمنت أمرًا بتحريك وحدات بحرية مصرية للتمركز في ميناء عدن اليمني، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، قبل اندلاع الحرب بشهرين تقريبًا، وتكليفها باعتراض السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل.

تجربة مريرة

أكدت الوثائق المصرية المنشورة حديثًا ما سبق أن ذكره الرئيس الأسبق للشطر الجنوبي من اليمن، علي ناصر محمد، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع آنذاك، بأن حكومته استقبلت سفن الأسطول البحري المصري في عدن وباب المندب. هذه السفن كانت تتنقل بين عدن والغردقة وبعض الجزر لنقل المواد الغذائية والتموينية، وتم إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، ولم يُفتح إلا بعد اتفاق مصر وإسرائيل على وقف إطلاق النار.

وفي مقال نشره قبل عامين بمناسبة الذكرى السنوية لحرب أكتوبر/تشرين الأول، ذكر علي ناصر محمد أن حكومته ردت على الضغوط الإسرائيلية، عبر حليفها آنذاك الاتحاد السوفياتي، بالتأكيد على أن القضية هي معركة عربية.

لذلك، كانت إسرائيل ولا تزال حريصة كل الحرص على الحفاظ على وجود ما في الدول المطلة على البحر الأحمر وفي جزره، وذلك لإدراكها العميق لأهميته، وانطلاقًا من تجربة مريرة، وقلقها الدائم من أي استهداف مباشر أو غير مباشر قد يأتي من جهته.

المراقب للمشهد على ضفتي البحر الأحمر ومدخله الجنوبي يلاحظ التنافس الدولي المحموم على التمركز العسكري فيه منذ فترة طويلة، بدءًا من القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي، التي تأسست في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول بسنوات قليلة. وتحولت جيبوتي إلى وجهة عسكرية لمعظم الدول الكبرى، بفضل موقعها المطل على غرب مضيق باب المندب الاستراتيجي. أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية فيها إحدى أكبر قواعدها العسكرية في القارة الأفريقية، واختارتها الصين لتمركز قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج حدودها الجغرافية، وتوجد فيها قاعدة عسكرية يابانية، هي الأولى لها خارج أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية، كما تستضيف جيبوتي قاعدة إسبانية وأخرى إيطالية.

وبالقرب من جيبوتي، لم يغب الجيش الأمريكي عن الصومال، رغم خسارته الموجعة في معركة مقديشو عام 1993، وإن كان حضوره محدودًا. وافتتحت تركيا، العضو في حلف الناتو، أكبر قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في العاصمة مقديشو قبل ثماني سنوات تقريبًا، على الرغم من الاضطرابات الأمنية التي تعصف بالصومال. وعززت تركيا وجودها العسكري في القرن الأفريقي بتوقيع اتفاقية للدفاع عن المياه الإقليمية الصومالية وإعادة تنظيم قواتها البحرية في فبراير/شباط الماضي، مع توجيه أنظارها نحو سواكن السودانية. في المقابل، لم تتحقق آمال الروس حتى الآن في التمركز العسكري ببورتسودان، خاصة بعد دخول السودان في أتون الحرب الأهلية.

احتشاد بحري

وفي الضفة الأخرى للبحر الأحمر وخليج عدن، كادت الولايات المتحدة أن تتمركز عسكريًا في مدينة عدن جنوبي اليمن عقب الهجوم الذي استهدف المدمرة يو إس إس كول في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2000، إلا أن اعتبارات أمنية حالت دون ذلك، واكتفت، كما المملكة المتحدة، بحضور عسكري محدود في اليمن تحت مبررات تدريبية وتنسيقية.

في ظل هذا الحشد البحري المكثف، سواء تحت مسمى عملية "حارس الازدهار" بقيادة أمريكا وبريطانيا، أو عملية "أسبيدس" التي أطلقتها دول أوروبية لحماية سفنها التجارية، تبدو الصين، القوة التجارية الأبرز في عالمنا اليوم، وكأنها تراقب الأحداث بصمت. في المقابل، سارعت الهند، جارة الصين اللدودة، إلى استغلال هذه الأحداث لعرض قوتها ونشر قطعها البحرية قبالة السواحل الهندية، وصولًا إلى خليج عدن، تحت ستار الاستجابة السريعة وتقديم المساعدة للسفن المستهدفة، دون أن تعلن انضمامها إلى أي تحالف بحري.

وإذا كانت القطع البحرية العسكرية لمعظم دول العالم، المتحالفة والمتنافسة على حد سواء، بدءًا من أمريكا ووصولًا إلى إيران، لم تغادر مياه البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب منذ سنوات، تحت ذريعة مكافحة القرصنة التي ازدهرت بالقرب من باب المندب خلال الفترة الماضية، انطلاقًا من الأراضي الصومالية، فإن هذا التزاحم اليوم يضع المنطقة بأسرها أمام سيناريوهات مفتوحة، قد يكون من الصعب التكهن بمآلاتها، خاصة وأن صراع القوى الكبرى في تصاعد مستمر، على الرغم من التحذيرات المتكررة والتأكيد على حاجة العالم الماسة إلى خفض التوتر والتصعيد، وضمان تدفق سلس ومستمر لسلاسل الإمداد، للتغلب على تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي الذي تسببت به الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كورونا.

وبغض النظر عن الدوافع الحقيقية للدول التي سارعت بإرسال سفنها الحربية إلى البحر الأحمر وخليج عدن، أو لجماعة الحوثي، وبعد مرور نحو تسعة أشهر على عملية "طوفان الأقصى"، تظل هناك أسئلة جوهرية تتطلب إجابات شافية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة